"الأهرام المسائي" تنشر أسرارًا من المذكرات المنسية لرئيس هيئة قناة السويس بعد التأميم


29-7-2015 | 11:02


الأهرام المسائي

يظل اسم المهندس محمود يونس، محفورا بحروف من نور في تاريخ مصر الحديث، باعتباره أحد المنفذين الرئيسيين لعملية تأميم قناة السويس، وقد تولي يونس رئاسة هيئة قناة السويس خلال الفترة من يوليو عام 1957 حتى أكتوبر من العام 1965، وهي الفترة التي شهدت ملحمة وطنية كبري، نجح خلالها المصريون في إدارة شؤون القناة، وتسيير حركة الملاحة بها باحترافية كبيرة أذهلت العالم، ليؤكد الرجل جدارته باختيار الزعيم الراحل جمال عبد الناصر له، لتولي مهمة السيطرة على إدارة قناة السويس عند قرار التأميم التاريخي.

تعرض محمود يونس في حياته لمحاولة اغتيال، عندما جرحت يده عندما كان في زيارة إلى بيروت بطريقة غريبة، وهو ما ألقي بشبهات كبيرة حول تورط إسرائيل في تلك العملية، خاصة بعدما ثبت استخدام المخابرات الإسرائيلية لنوع من الإبر المسممة، في عمليات تصفية سياسية لمن يعتبرونهم خطرا على سلامة الدولة العبرية، وقد تعرض يونس حسبما قال بعض افراد عائلته لحادث مشابه في العاصمة اللبنانية، قبل أن تطلب منه الأجهزة الأمنية العودة فورا إلى القاهرة، لتلقي العلاج، لكن محاولة الاغتيال تركت أثرا ظل واضحا في حركته، حتي رحيله في أبريل من العام 1979، بعد تاريخ مشرف حافل بالبطولة والتضحية.

السطور التالية تروي فصولا من مذكرات كتبها محمود يونس قبل ما يزيد على أربعين عاما، وظلت حبيسة ادراج مكتبه لعقود، قبل أن تفرج عنها اسرته قبل نحو عشر سنوات، وتصدرها هيئة قناة السويس في كتاب لم يشعر به أحد على أهميته، وما يضمه من وثائق ووقائع، تعكس جانبا مهما من تاريخ ذلك المرفق الكبير، الذي حفره المصريون قبل ما يزيد على قرن من الزمان بالعرق والدم.

وتنشر "الأهرام المسائى" اليوم الحلقة الرابعة من مذكرات يونس المنسية
حيث يقول : لم يشهد القرن التاسع عشر، حفلا يضارع حفل افتتاح قناة السويس عظمة وروعة، وقد كلف هذا الحفل خزانة مصر ما يقرب من مليون و400 ألف جنيه بحساب تلك الأيام، لكن إسماعيل لم يصل على روعة الاحتفال وما انفق عليه من أموال، على النتيجة التي كان يطمع فيها، بل ازدادت الأحوال سوءا واضطر الخديوي مدفوعا بعوامل الضغط والإغراء الأجنبي، إلى الإمعان في القروض، فأغرق مصر بديونه شيئا فشيئا، حتى بلغت عام 1873 مبلغ 90.204.360 جنيه مصري، بل وكان عليه أن يدفع أرباحا للدائنين، قدرها نحو تسعة ملايين من الجنيهات، هذا عدا الديون السائرة وكانت لا تقل وحدها عن 20 مليون جنيه، لذا فلم يمر العام 1875، حتى كان إسماعيل قد رهن كل أملاك البلاد ومرافقها، ولم يبق في حوزته إلا حصة مصر في أسهم شركة القناة، فهل يرهنها بدورها؟.

لقد تردد الخديوي قبل أن يخطو هذه الخطوة، ولكنه لما أحس بالأرض تميد تحت قدميه، وأنه لابد معلن إفلاس مصر، أقدم على رهن الأسهم لعله يستطيع بما يحصل عليه من مال، أن يسد بعض الثغرات التي أخذت السيطرة الأجنبية تتدفق منها على مصر.



نصيحة ديليسبس:
هنا تقدم ديليسبس بنصيحة: لقد نصح إسماعيل ببيع أسهم مصر بدلا من رهنها، ووعده بإقناع جماعة من رجال المال الفرنسيين بالشراء، وما إن قبل إسماعيل نصيحة "صديق مصر الوفي" وبدأت المفاوضات، حتى نما الخبر إلى الحكومة البريطانية، فتدخلت للشراء وابعاد المنافس الفرنسي بمساعدة عميلها "نوبار"، وتمت الصفقة في 25 نوفمبر 1875، بمبلغ 100.000.000 فرنك، أي أربعة ملايين من الجنيهات، خصمت إنجلترا منها قيمة 1040 سهما كان إسماعيل قد تصرف فيها بالبيع، وبتلك الصفقة انتقلت أسهم مصر "وعددها 176602 سهم" إلى بنك انجلترا في صناديق مصفحة، ولما كان إسماعيل قد تنازل في سنة 1869 عن أرباح الأسهم لصالح شركة القناة لمدة 24 عاما، من عام 1870 إلى عام 1894 مقابل تنازل الشركة عن إعفاءاتها الجمركية، فقد حكمت بريطانيا على مصر بأن تدفع لها قيمة هذه الفوائد بواقع خمسة ملايين فرنك كل عام، ولمدة عشرين عاما، وقد أذعن إسماعيل لهذا الشرط المذل، ودفعت مصر الإتاوة عليها على دائر مليم، فاستردت انجلترا ثمن الأسهم بالضبط (24 × 5 =100 مليون) وتكون بذلك قد أخذتها بالمجان.
كانت شركة قناة السويس، إزاء الأرباح الطائلة التي كانت تحققها، قررت في سنة 1924 زيادة عدد أسهمها إلى الضعف، فاستبدلت بكل سهم قديم (قيمته 500 فرنك) سهمين جديدين قيمة كل منهما 250 فرنكا، فأصبح عدد أسهم بريطانيا المغتصبة منا 353.204، وحقق كل سهم من هذه الأسهم الجديدة سنة 1936، أي قبل انخفاض قوة النقد الشرائية، ربحا قدره 600 فرنك ذهب تساوي 24 جنيها مصريا، وبعملية حسابية بسيطة يتضح أن الربح الذي حققته انجلترا من أسهم مصر خلال سنة 1936 وحدها، هو (24 × 353.204 = 8.476.896 جنيه مصري)، أي ضعف ثمن الأسهم الذي لم تدفعه.
لقد بلغ ما كانت تدره هذه الأسهم على بريطانيا قبل التأميم، أكثر من خمسة عشر مليون جنيه في العام الواحد، لكن بريطانيا عندما قررت شراء أسهم مصر، لم تكن تجري وراء الكسب التجاري وحده، وقد كتبت صحيفة "التايمز" للدلالة على الطابع السياسي الذي امتازت به هذه الصفقة، في عددها الصادر يوم 26 نوفمبر 1875، والذي أعلنت فيه نبأ شراء الأسهم تقول: "الجمهور في هذا البلد وغيره سينظر إلى هذا العمل الخطير الذي قامت به الحكومة الإنجليزية، من نواحيه السياسية لا التجارية، وسيعتبره مظاهرة وشيئا أكبر من مظاهرة، سيعد إعلانا لنياتنا وشروعا في العمل على تحقيقها، وأن من المستحيل أن نفكر في شراء أسهم قناة السويس منفصلا عن علاقة انجلترا المستقبلية بمصر، أو أن نفكر في مصير مصر منفصلا عما يحوم حول الدولة العثمانية من المخاوف، فإذا أدت القلاقل أو الاعتداء الخارجي أو فساد الإدارة الداخلي، إلى انهيار الدولة العثمانية ماليا أو سياسيا، فقد نضطر إلى أن نحتاط للمحافظة على سلامة ذلك الجزء من أملاك السلطان الذي تربطنا به علاقة قوية"، وقد قال دزرائيلي في منتهى الصراحة وقتها إن الغرض من العمل الذي قام به "سياسي يرمي إلى تقوية دعائم الإمبراطورية".

حقوق ضائعة:
عزل إسماعيل في سنة 1879 بعد أن أضاع علي مصر كل حقوقها في قناة السويس، اللهم إلا حصتها من صافي الأرباح وقدرها 15%، كان فرمان الامتياز قد نص على وجوب أدائها للحكومة المصرية، وقد كانت هذه الحصة هي آخر عروة تربط بين مصر وشركة القناة، ففصمها المستعمر على يد الخديوي توفيق في 21 مارس 1880، حيث بيعت حصة مصر بمبلغ 880 الف جنيه، إلى البنك العقاري الفرنسي، وقد أنشأ هذا البنك شركة تحت اسم "الشركة المدنية لاستيفاء نسبة الـ 15% من أرباح قناة السويس المخولة للحكومة المصرية" لاستغلال هذه الحصة، وربحت الشركة من وراء هذه العملية أرباحا طائلة، إذ بلغ ما جنته في سنة 1928 فقط 4.500.000 جنيه، أي أنها حققت في سنة واحدة، خمسة أمثال ما أنفقته في شراء حصة مصر المسلوبة، وبذلك فقدت مصر كل شيء كان لها في القناة.
لقد ابتزت الشركة من الحكومة المصرية نصف رأسمالها تقريبا (44% بالضبط) عن طريق الأسهم التي فرضها ديليسبس على الخديوي فرضا، واغتصبت الشركة نصف رأسمالها الثاني تحت ستار المزاعم التعويضية التي أقرها لها الإمبراطور نابليون الثالث في حكمه الجائر، واستلبت الشركة 1.600.000 جنيه مقابل تنازلاتها الوهمية عن أملاك هي في أصلها هبة منا، وعن مبان أقمناها دون أجر بسواعدنا، وعن إعفاءات جمركية ما لبثت حتى استردتها.
لقد اضطرت مصر في سبيل أداء هذه المبالغ، إلى عقد عدة قروض أسلمتنا لأنياب زبانية ومرابين، سرقوا منا ملايين الجنيهات عن طريق الرشوة والربا الفاحش، كما اضطرتنا سوء حالة ماليتنا وتدهور اقتصاد بلادنا، إلى بيع أسهمنا "بل إهدائها" إلى بريطانيا وبيع نصيبنا من أرباح القناة، فإذا أضفنا إلى ذلك كله قيمة الخسارة التي تكبدها الاقتصاد المصري من هجر الفلاحين مزارعهم، التي لا تقل عن مليون جنيه في السنة، فقد كان رخاء مصر قد أفسده نزع الفلاحين من حقولهم، ونقلهم إلى "البرزخ" بطريقة ظالمة غير قانونية، وبالأرقام الإحصائية الرسمية فقد تراجعت كميات القطن التي كانت مصر تصدره أثناء سنوات السخرة، الى نحو 700 الف قنطار، في حين قفزت بعد انتهاء السخرة الى نحو مليون و850 الف قنطار، فإذا أحصينا المبالغ التي دفعناها نقدا، وأضفنا إليها قيمة ما انخفض من دخلنا بسبب أعمال الحفر، اتضح لنا أن إسهام مصر المالي لا يستغرق رأس المال فحسب بل يغطي تكاليف الحفر كاملة.

والحقيقة انه لولا مصر ومعونة مصر، ولولا رأس المال البشري الذي وضعته مصر تحت تصرف ديليسبس ليغترف منه كما يشاء، ولولا استلاب أموال الأمة، ولولا فناء البلد اجتماعيا واقتصاديا، لاحتوت المشروع في مهده أذرعة الخيبة، وباء بالفشل الذريع، ذلك الفشل الذي ذاق ديليسبس مرارته في مشروع قناة بنما، حيث خانه الحظ فلم يتح له من سفه الولاة ما يمكنه من شعب لتسخيره، وخزانة دولة لنهبها، فألصقت به محاكم فرنسا تهمة النصب وقضت عليه بالسجن.
وشتان بين ما انتاب ديليسبس من بنما وبين ما ناله من السويس، لقد خرج ديليسبس من مصر، بعد أن تم شق البرزخ مكلل الرأس بأغصان من الغار، محاطا بهالة من المجد، فقد خلعت عليه فرنسا لقب "الفرنسي الأكبر" ومنحته الملكة فكتوريا وشاح الصليب الأعظم من وسام نجمة الهند، ونصبته مواطنا لمدينة لندن في أثناء حفل حافل أقيم في قصر البلور، أما نحن الذين أنشانا القناة بسواعدنا، وغذيناها بأموالنا وسكبنا فيها الدماء والدموع، فهل تعرفون ماذا كان نصيبنا؟
ـ لقد كان الاحتلال.
احتلال مصر:
ظلت مصر لأكثر من نصف قرن لا تستفيد مليما واحدا من قناة السويس، بعد أن فقدت أسهمها وحصتها في الأرباح، وفي سنة 1937 لما ألغيت الامتيازات الأجنبية، بدأت الشركة تدفع إلى الحكومة المصرية بناء على اتفاق بينهما 300 الف جنيه كل عام على سبيل الإتاوة، وبمقتضى اتفاقية 7 مارس 1949 أبطلت الإتاوة، وتعهدت الشركة بأن تدفع للحكومة المصرية في أول يوليو من كل سنة، ابتداء من سنة 1949 حصة من دخلها بنسبة 7% من أرباحها الإجمالية، وقد كانت هذه الحصة في السنوات التي سبقت التأميم تناهز المليون جنيه.
هذا ما كنا نتقاضاه فعلا من قناة السويس حتى يوم التأميم: مليون جنيه من 35 مليونا كسبتها الشركة في سنة 1955، أما إذا استمعنا لأبواق الدعاية التي كانت تشيد بمآثر الشركة على مصر، واطلعنا على المقالات والمجلات والكتب التي كانت تنشرها الشركة، وتنفق فيها آلاف الجنيهات كل سنة، فيخيل إلينا أن مصر هبة شركة القناة لا هبة النيل.
كانت الشركة تمن علينا بالضرائب التي تسددها إلى الخزينة المصرية، كأنها تقدم لنا هدية لا تؤدي واجبا، وتمن علينا الشركة بالأرباح التي تدفعها لأصحاب قراطيسها المالية في مصر، ليت شعري، أهي هبة تسديها إليهم أم حقوق تسددها، وتقول الشركة بفخر واعتزاز، حسبما تقول مجلة قناة السويس، مذكرات وإحصاءات، الصادرة عن الشركة سنة 1950: "ومما يذكر أيضا أن الشركة، بالرغم من أن اتفاقياتها المختلفة مع الحكومة تعفيها من تسديد الرسوم، عن المواد التي تستوردها من الخارج، فإنها تعمد إلى شراء ما يلزمها من آلات ومعدات من السوق المصرية على نطاق يتسع يوما بعد يوم، وفي الأعوام الأخيرة بلغت مشترياتها السنوية من مصر نحو 400 ألف جنيه وارتفعت إلى 600 ألف في سنة 1949".
كانت شركة القناة تمن علينا بنصف مليون جنيه، تشتري بها بضائع من أسواقنا، ترى كم مليونا حولت إلى الخارج رسميا و"غير رسمي" لصالح موظفيها الأجانب؟ فكم مليونا من ملايين الاحتياطيات التي تكدست لديها استثمرت في مصر؟