"بوابة الأهرام" تنشر فصلاً من رواية "وردة أريحا" للفلسطيني أسامة العيسة


24-6-2015 | 12:58


بوابة الأهرام

تنشر "بوابة الأهرام" فصلًا من رواية "وردة أريحا" للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة، الحائز على جائزة الشيخ زايد فرع الآداب لعام 2015 عن روايته "مجانين بيت لحم".

يقول العيسة في روايته الجديدة "وردة أريحا":

عندما كان شَدِرّمَة صغيرًا، يقال بأنه كان فتى جميلاً، طويلاً، يترك شعره مسدلاً على كتفيه يظهر من تحت كوفيته، وهذه الصورة التي يرسمها أهالي القرية لشَدِرّمَة، عندما كان يقترب من عامه العشرين، يصعب تصورها من الأجيال الأصغر سنًا، الذين لا يمكن أن يتخيلوا شَدِرّمَة إلا بهيئته التي عرفوه بها، بعينه العوراء، وغليونه، ولحيته غير المهذبة، وأسنانه الصفراء، والأهم طَّبَره، مثار اعتزازه.

ولكن شَدِرّمَة، بالطبع لم يولد على هذه الهيئة، وعندما أصبح في سن الجندية، وكان ذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ببضع سنوات، فكّر بالتهرب منها بأي طريقة، حتى لوّ اضطر أن يصبح فراريّا، ينام في المغر والكهوف، يقتات على ما تيسر من عشب، ولحوم حيوانات يصيدها، ويجوع أكثر مما يشبع، المهم أن يظل قريبًا من قريتنا، معتنيا بأرضه ووالدته المسنة، وزوجته الفتية.

ابتكر الفلاحون عدة طرق للتهرب من الجندية، مثل بتر أصابع، أوّ خلع الأسنان، ولكن لا أحد يعرف مَن الذي اقترح على شَدِرّمَة، استخدام سمّ الفئران، لفقء إحدى عينيه. نعم وافق على فقدان عين، على أن لا يفقد حياته، هناك في اليمن البعيدة، في حرب إن عرف متى تبدأ، لن يعرف أبدًا كيف ستنتهي؟، وبذهابه سيفقد أرضه، وعائلته.

ذهبت عين شَدِرّمَة، ولكن ذلك لسوء حظه لم يكن كافيًا لإقناع الحكومة بتركه في حاله، ولولا تعاطف الضابط معه، وهو أمر نادر في ذلك الزمان، لكان العقاب طال زوجته ووالدته، المتهمتين بتسهيل فقء عينه، ليتهرب من الجندية. لم تكن حكومة السلطان، لتعتق امرأه، أوّ رجلاً، صغيرًا، أوّ كبيرًا، تحوم حوله، أوّ حولها شبهة مساعدة أحد بالتهرب من الجندية. فالخدمة في جيش السلطان، شرف لا يدانيه شرف، ومن يتهرب منه، لن يلحقه عار السلطان، ولكن بطشه، ويا له من بطش، بطش سلاطيننا لا يدانيه بطش أي سلاطين وملوك وأباطرة.

لوّ لم يكن أهالي قريتنا، ينسون بسرعة، لتذكروا (الجردة)، يوم جُرّ شَدِرّمَة، ومجموعة من أبناء القرية للجندية، كان يومًا حزينًا، مشهودا، اصطف الناس على جانبي الشارع المترب، التي تتمدد على جانبيه حقول العنب، والسفرجل، والتفاح السكري، واللوز، بطول كيلو متر من دير الخضر، قرب نواة القرية إلى شارع القدس-الخليل، بينما كانت قريبات المجندين الجدد، وصديقاتهن وجاراتهن، وغيرهن يولولن خلفهم. وتجمع العديد من الرجال، في باحة دار الراهب، الدار الحجرية الوحيدة التي تقع تقريبا في وسط المسافة، محاولين إخفاء مشاعرهم، بينما أبناء وأشقاء المجندين، جَروا خلفهم وهم يرشقون الجنود العثمانيين بحصى صغيرة. والتف آخرون، من بالوع قريتنا، الذي تتجمع فيه مياه الشتاء، وتشكل بحيرة مؤقتة، إلى شارع القدس-الخليل، وكأنهم يطاردون أملا، بإنقاذ الراحلين. كانوا يعلمون، بانهم لن يعودوا أبدًا.

يقال بانّ مناوشات وقعت بين الجنود العثمانيين، والأهالي، خاصة الفتية منهم، تطورت إلى مواجهة دموية، وبان اثنين أوّ ثلاثة من الفتية قتلوا، بنيران الجنود، ما زالت قبورهم مميزة، في مقبرة القرية، ببقايا لون أخضر، وضع على الحجارة المحيطة بها. ربما طلبا لرحمة الخضر الأخضر، أوّ لكي تظل دماؤهم خضراء تُذكر، بالظلم الذي وقع عليهم، ولم يكن سلاحهم سوى حجارة في وجه بنادق دولة السلطان المترامية الأطراف، التي لم تدرك كم يكره ناسنا الانضمام لجيوشه عظمته. أحد القبور الثلاثة، مُيز برسم لنخلة وهلال، ربما أُضيف لاحقًا، من صديق، لا يعرف القراءة والكتابة، مثل جميع أهالي القرية، أوّ معظمهم في تلك الأيّام، يريد ان يؤكد بانه لم ينس الشهداء الثلاثة، التي نسيت القرية أسماءهم، ولكن تمييز اللون الأخضر حتى الآن على القبور أضفى عليها، بغض النظر عن قصة الذين بداخلها، احتراما ما من الأجيال اللاحقة، تتداول قصتهم الموغرة في القدم، خصوصًا عندما ينضم إلى المقبرة ضيف جديد، يحملونه على الأكتاف، ويستمعون خلال دفنه، لموعظة من شيخ يتطوع لمهمة تلقين الميت، كيفية التصرف عندما يزوره في القبر، بعد رحيل محبيه، بعد دفنه، ملاك يسأله عن دينه، ورسوله، وأن يكون واثقًا من الإجابة، وإلّا فان أموره لن تسير كما يتمناها له الأحياء، ويدعو له الشيخ، بان يكون له ناس، وزوجة، وأولادً، وأصدقاءً، أفضل من ناسه في هذه الدنيا الفانية، وان يُغسل بالماء والثلج والبَرّد، مثلما يُطهر الجسد الأبيض من الدنس، بينما يقول الناس في نهاية كلّ جملة آمين، ثم يتلون الفاتحة على روحه وأرواح موتى المسلمين كافة.

الذهاب إلى الجندية، في عُرف قريتنا، لم يكن يعني فقط ذهاب المجند إلى الموت، ولكن أيضًا موات عام وطام يصيب مَن يتركهم خلفه من أرضّ، ونساء، وأبناء، ورجال كبار في السن، ومختلف أنواع الحلال من أغنام وأبقار، والدواب كالحمير، والبغال. إنّه خلل في عجلة انتاج، استقر منذ قرون. ولكن الحكومات لا تأبه، ومنذ قرون تسوق الفلاحين إلى حتفهم، في حروبٍ غير مقنعة لهم. ليس المهم ان تكون كذلك، المهم ان يسمعوا، ويطيعوا ولي الأمر. فهم وأرضهم، ونساؤهم، وأولادهم، وحلالهم، ليسوا إلا ملكا لولي الأمر، يتصرف بهم كما يشاء.

فكّرت زوجة شَدِرّمَة باللحاق به، وسارت فعلاً، بمحاذاة قافلة الجند، ونامت عدة ليالٍ في الخلاء، تتوقف عندما يتوقفون، وتتحرك مع تحركهم، وغطى رفاقه، غيابه، ليلتين على الأقل، أمضاهما معها، ولكنّه في النهاية. طلب منها بحسم العودة والاعتناء بالعجوز أمه، ماذا سيقول علينا الناس؟ عندما نتركها لوحدها، لوّ ماتت في غرفتها، لن يدري عنها أحد إلا بعد مضي فترة، لتكن مصيبتنا في واحدٍ وهو أنا، أمّا أنتِ وأُمّي فليكن الله بعونكن. ومَن ليس له أب له رب. قالت له بانه لن يكون لها حياة بدونه، وبانها تقبل بان يرتبط مصيرها بمصيره، وما يحصل له يحصل لها، وربنا الذي سيتدبر أمر واحد، رحيم بما يكفي ليتدبر أمر اثنين، ارتبطا بالحلال، ويعرف ما في قلبيهما، ولكن ذلك لم يثنه عن قراره الذي وصفه بالمؤلم، ولكن لا بد منه.

أمّا في داخله فكان يفور بركان، ومن المهم أن نتوقع، بأن خفف من هيجانه، عودة امرأته إلى القرية. في الواقع لقد عاني خلال الأيّام الماضية، نظرات وتعليقات زملائه، على سماحه بشحططة امرأته خلفهم، ونومها في العراء. نفضل الموت على أن يحصل هذا لواحدة من قريتنا، قالوا له، فذاب خجلا وألما.
وعندما ودّعها، بكت بحرقة، وكان يمكنه سماع نحيبها، وهي تعود تجرجر أذيال الخيبة. مدركة للإحراج الذي سببه وجودها بقربه. رفعت عينيها تجاه السماء، بينما الدموع تنساب على وجنتيها، وكأنها تقول: إلى متى؟ إلى متى الذي يحصل لنا، ولماذا يحصل لنا؟ ومتى ستكون نهاية كلّ ذلك؟ نهاية الحروب في هذه البلاد؟ ونهاية قلوب رجالها القاسية، وكلامهم غير الرحيم. يا سماء تذكري نساء هذه البلاد وأنت ترسلي أشعة شمسك عليها.