في مشهد مكرر يشبه إلي حد بعيد أحداث جمعة الغضب الأولى 28 من يناير الماضي، تصاعد دخان القنابل المسيلة للدموع ليغطي سماء ميدان التحرير والشوارع المحيطة وتعالت أصوات الصراخ بعد تشابك أفراد الأمن مع متظاهرين محسوبين علي أهالي شهداء الثورة، بينما طال سكان المنطقة جزء كبير من الخسائر بعد تحطم عدد من سياراتهم.
موضوعات مقترحة
يأتي ذلك بعد ساعات قليلة من قرار حل المجالس المحلية، وهي" الحدائق الخلفية"، بحسب المراقبون، حيث كان النظام السابق يمارس درجة عالية من أشكال الفساد.
والسؤال ما الذي يحدث في التحرير؟.
هل تحاول فلول النظام السابق الوقيعة بين الشعب والشرطة من جانب والشعب والمجلس العسكري من جانب آخر، في محاولة ربما تكون الأخيرة للبقاء علي مصالحها؟ وهل اندس بطلجية لإحداث الشغب بين أهالي الشهداء المتظاهرين؟ وما دور الأمن والحكومة في الخروج من المأزق الذي تمر به البلاد وما صورة الغد الذي تمضي البلاد باتجاهها؟.
برأي خليل العناني، باحث ومحاضر مصري بجامعة دورهام البريطانية، أن ما يحدث بميدان التحرير منذ مساء الثلاثاء، هو انعكاس لحالة الاستقطاب السياسي والانقسامات الحادة بين النخب المدنية والرموز السياسية والتصريحات غير المسئولة لبعض المسئولين في الحكومة.
مسئولية ما حدث، بحسب العناني، تقع علي طرفين هما المجلس العسكري والنخبة المدنية وتعبر بشكل مباشر عن خلل جوهري في إدارة المرحلة الانتقالية، فيما يكتفي المجلس العسكري " بالمراقبة ويتدخل عندما تحدث أي أزمة".
أما النخبة المدنية فقد "فشلت" في تحقيق الحد الأدني من التوافق علي أولويات المرحلة، ويسعى كل طرف سياسي لتحقيق مكاسبه الحزبية بعيداً عن المطالب العامة للجماعة الوطنية المصرية.
ويعبر العناني عن عدم اقتناعه بوجود علاقة بين أحداث التحرير وحل المجالس المحلية، ويقول: لست مقتنعاً بأن هناك أيادي خفية خلف ما جرى، وإنما بالأساس سوء إدارة من جانب المسئولين عن إدارة المرحلة الراهنة، فاللذين خرجوا إلي الشارع هم من لم يتم استيعابهم في برامج الأحزاب القديمة والجديدة، ولا يجدون من يعبر عنهم بشكل أمين ونزيه. لذا يجب أن يعترف الجميع بأخطائهم خلال المرحلة الماضية.
ويختلف الدكتور عمرو هاشم ربيع، رئيس وحدة الدراسات البرلمانية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية مع سابقه، فهو يري أن ماحدث بميدان التحرير هو رد فعل لأمرين، أحدهما خاص ويتعلق بقرار حل المحليات، فالأيدى الخفية وراء أحداث التشابك التي وقعت منذ مساء الثلاثاء بين الشعب وبين الشرطة ليسوا بعيدين عن المتضررين من قرار حل المحليات، بحسب قوله وهو ما وصفهم بـ"فلول النظام"، حيث يبلغ أعضاء المجالس المحلية طبقا لانتخابات 2008، 53 ألف عضوا، بينهم ألف عضو فقط حصل عليها أحزاب الجبهة والوفد والتجمع عن طريق" المساومة" مع الدولة لتهدئة أحداث 6 إبريل 2008 والتي تمركزت في المحلة الكبري.
أما السبب الثاني فهو عام ويتعلق بوراء ما يحدث في التحرير منذ مساء الأمس فهو، بحسب ربيع، يرجع إلي غياب جهاز الأمن الذي "تحلل"، وأصبح ما يقوم به هو رد الفعل دون استعداد لمواجهة مثل تلك الأحداث.
ويتفق الدكتور يحيي القزاز، ناشط سياسي بحركة استقلال الجامعات المعروفة باسم 9 مارس، مع رأي سابقه، مضيفا سببا آخر هو عدم استقرار الأمن، وهي مسئولية يلقي بها علي عاتق المجلس العسكري" لأننا لا يمكن التصديق بأن القوات المسلحة لاتستطيع فرض الأمن وقد سبق وفرضته في يناير 77".
لكن التدليل الزائد للشرطة، بحسب رأي القزاز، هو دافع قوي لما يحدث، فلا يمكن أن نقول إن الشرطة مجروحة ونجعل ذلك سببا لعدم إدراكها مهامها وتصر علي النزول والتعامل مع المتظاهرين بنفس طريقتها يوم 28 يناير.
هناك أيضا فلول تلعب ضد الثورة، هكذا يتابع القزاز، معربا عن اعتقاده أنهم مأجورون فلا يعقل، بحسب قوله، أن يكون بين أهالي الشهداء أصحاب" موتوسيكلات"!، وهدف الفلول هو إحداث وقيعة بين الطرفين القوات المسلحة والشعب أصحاب الثورة الحقيقيين" لتنقلب عليه القوات المسلحة وتتهمه بتخريب الثورة".
بعكس الكثيرين، يري القزاز أن ما يحدث سوف ينعش ذاكرة الثورة" المسترخية" حاليا.
فما يحدث يعني أن الثورة في خطر وأن فلول النظام عادت مرة أخري ولابد من العودة إلي الميدان. يتابع قائلا: من غير المعقول أن يصمت الثوار والشعب صاحب الثورة وأهالي الشهداء. وكان يجب علي أجهزة الدولة أن تعاقب الفاعل الحقيقي بدلا من" إلصاق" التهم للأبرياء.
وبرغم ذلك يتفق القزاز في نفس الوقت مع الرأي بأن البلاد تمر بأزمة ويقول: نحن في ورطة وأعتقد أن الحل المؤقت هو انتخاب رئيس جمهورية ليكون الرئيس المدني لإدارة الدولة علي أن يكون المجلس العسكري هو الداعم للثورة وللدولة، لأنه من المعروف أن الذي يدير الدولة هو الرئيس وليس البرلمان ،وإن كان هذا يتنافي مع رأيي الشخصي، فأنا من أنصار الدستور أولا ثم إذا ما أقر الدستور النظام الرئاسي ينتخب الرئيس ثم مجلس الشعب والشوري.
من جانبه يرجع الدكتور مصطفي النجار، منسق حملة دعم البرادعي، ما يحدث من بطء محاكمات المتهمين بقتل الشهداء، فحتي الآن تتعامل الداخلية والأمن بشكل يسمح لبلطجية محسوبين علي فلول النظام بالتحرك وإثارة الفتنة بين الشعب والجيش والشعب والشرطة، ويتزامن هذا مع قرار حل المحليات، مشيرا إلي وجود دلائل وصور تؤكد أن من قاموا بأعمال العنف ليسوا من أهالي الشهداء.
يتابع النجار مؤكدا رؤيته أن الثورة تعود إلي الوراء، وينصح للخروج من المأزق بضرورة المحاكمات السريعة حتي لو كانت محاكمات عسكرية، وتعويض أهالي الشهداء وعودة الداخلية فليس هناك أي مبرر لعدم عودتها حتي الآن.
غموض شديد يحيط بالأحداث، هكذا قال عبد الغفار شكر، عضو المكتب السياسي لحزب التجمع، متسائلا: هل هي عفوية أم أن وراءها أهداف محددة؟. ويطالب شكر بضرورة تعامل كل الأطراف بجدية ومسئولية مع الأحداث، وأن توجه الحكومة بتكوين لجنة تقصي حقائق تشكل من أفراد لهم سمعتهم السياسية المشهود لها، ينزلون إلي ميدان التحرير ويتعرفون علي حقيقة ماحدث ويصدرون تقريرا مفصلا عن الحدث.
كما يري شكر أن علي الحكومة إدراك أن مستقبل البلد والثورة يتوقف علي قرار منها.
موضحا أن هناك دورا علي أجهزة الإعلام في نقل الحدث كاملا بكل جوانبه، ودور أخر يقع علي ائتلافات شباب الثورة والتي تعتبر ميدان التحرير ميدانها، بحسب قوله، وعليهم هنا المحافظة علي الثورة والتعرف علي حقيقة ما يحدث ومحاولة احتواء الشباب والسيطرة علي انفعالاتهم.
ويستنكر عضو المكتب السياسي لحزب التجمع، عدم وجود دور للأحزاب السياسية التي تقول إنها طليعة الشعب وعليها أن تقوم بدورها وإذا لم تقم بهذا الدور الآن فمتي ستقوم به.
كما يبدي تعجبه من ردود الأفعال من الإعلام وبعض الشخصيات، والتي تحمل إدانة للشرطة" فماذا يفعلون؟!، يدافعون عن المنشآت أم ينسحبون ويتركونها".
ويقول :منذ 6 أشهر ونحن نطالب الداخلية بالقيام بدورها، وهي الآن في موقف صعب وعلي الحكومة أن تحدد للشرطة دورها خلال الفترة المقبلة، فهناك انتقادات شديدة للشرطة ولكن، ما الذي كان يجب أن تقوم به في حالة الهجوم عليها؟ هل تحمي نفسها وتحمي المنشأت أم تستسلم وتنسحب؟.
الدور الأمني، يشبه إلي حد كبير شماعة يلقي عليها الكثيرون سبب كل ما تشهده البلاد من فوضي وشغب، لكن اللواء فؤاد علام، الخبير الأمني ووكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق، يرفض الربط بين انتشار حالة الفوضي الموجودة والبلطجة وبين تخلي رجال الأمن عن دورهم.
ويري علام أن قوات الأمن تحتاج إلي دعم شعبي وإعلامي لمواجهة هذه الموجه من الانفلات وإلا سنمضي -بحسب قوله- في اتجاه فوضي تزيد يوما بعد الآخر.
ويؤكد علام عدم تخلي الأمن عن دوره، موضحا أن البعض من أبناء الشرطة لديهم "خوف" من المحاكمات لأن بعض زملائهم، بحسب قوله، كانوا يحافظون علي أقسام الشرطة ويتعرضون الآن للمحاكمات.
ويعود علام ليؤكد أن هؤلاء الذين تخلوا عن دورهم هم قلة قليلة ولكنه يقول "علي الجانب الآخر لدينا شهداء من أفراد الشرطة أثناء القيام بعملهم منهم 3 شهداء في سيناء وشهيد علي الطريق الدائري ولدينا نموذج مأمور قسم الموسكي الذي خرج معرضا نفسه للخطر في مواجهة البلطجية وكل ذلك يتعارف مع التفكير المسموم الذي يشيعه البعض بأن هناك نوعا من التخاذل".
ويتوقف الخبير الأمني عند الآراء التي تؤكد عودة أفراد الشرطة لاستخدام العنف في التعامل مع المتظاهرين، فيصف أصحاب هذا الرأي بأنه يريد سرقة الثورة من مصر، لافتاالنظر إلي ما تناقلته المحطات التليفزيونية المصرية والعالمية من صور لعربات تضرب بالطوب من قبل المتظاهرين.
ويطالب علام بقوانين صارمة تحمي أفراد الشرطة في حالة الدفاع عن أنفسهم أو عن المنشآت، معتبرا أن ما حدث أمس هو أن الشرطة دافعت عن نفسها وعن المنشآت ومبني وزارة الداخلية، لكن من يخرج عن القانون يتحاسب سواء كان من الشرطة أو من المواطنين.
ويتفق جميع الخبراء الذين تم استطلاع رأيهم خلال التقرير السابق حول عدم استبشار الخير خلال المرحلة المقبلة، فمصر مقبلة علي أزمة تأخذنا، بحسب قولهم، من فوضي إلي فوضي أكير ولابد من تكاتف جميع القوي للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة.